انصب الاهتمام والتركيز في مطلع السنة المالية 2021 على سعر الصرف ، ما له وما عليه ، والآثار المحتملة لتخفيض سعر الصرف الرسمي للدينار الليبي على مختلف المتغيرات الاقتصادية خلال العام 2021 ، وفي مقدمتها الاثر على المستوى العام للاسعار . وقد طغى هذا الاهتمام على ما يستوجب اتخاذه من سياسات اقتصادية مكملة لسياسة تخفيض سعر الصرف او ما يعرف بالسياسات المصاحبة التي تناولها برنامج الاصلاح الاقتصادي والمالي ، والتي لم تحظى بالاهتمام الكاف ولم يتم تسليط الضوء عليها بالرغم من انها الضامن الاساسي لنجاح سياسة سعر الصرف من خلال التخفيف من الاثار السلبية لتخفيض سعر الصرف وتعظيم الآثار الايجابية المترتبة عليه . وقد يعود ذلك لغياب التنسيق المطلوب بين مؤسسات الدولة المعنية ، اي بين المصرف المركزي والحكومة والانقسام الذي تعرضت له مؤسسات الدولة .
وفي اقتصاد مشوه يعاني من عديد المشاكل والعلل الاقتصادية ، ليس اقلها الدين العام الذي تتجاوز نسبته 220٪ من الناتج المحلي الاجمالي ، و الاعتماد الكامل على ايرادات النفط في تمويل الميزانية العامة للدولة والطبيعة الريعية للاقتصاد والدولة ، وعدم مرونة القطاع الانتاجي غير النفطي ، وهشاشة وانقسام الموسسات السيادية ، والتوقف شبه التام لمشروعات وبرامج التنمية الاقتصادية والتي لم يتجاوز حجم الانفاق عليها 5% من اجمالى الانفاق العام ، وحجب ايرادات النفط في حسابات مصرفية خارج مصرف ليبيا المركزي ، في ظل هذه الاوضاع ينبغي ان ياْتي الاهتمام بحجم الميزانية العامة للدولة المتوقعة للسنة المالية 2021 ، والتي تمثل برنامج عمل الحكومة خلال السنة ، على رأس سلم الاولويات وان تحظى بما تستحقه من الدراسة والتحليل ، والاّ توضع تقديراتها جزافاً ، في اطار السياسة المالية المعتمدة بعد تخفيض سعر الصرف الرسمي للدينار وكسياسة مصاحبة له . ذلك باعتبار ان تعديل سعر الصرف واقرار ميزانية عامة للدولة مصاحبة له يشكلان نقطة تحول فى الاقتصاد الليبي و ينبغي الاستعداد والتحوط لما بعدها .
وفي تقديري ان حجم الانفاق العام وكيفية تحديده والاسلوب الذي سيتبع في تنفيد اعتمادات الميزانية خلال السنة المالية 2021 هي العوامل التي سيكون لها بالغ الاثر على الاقتصاد الوطني ، فالانفاق العام يمثل المحرك الرئيسي للطلب الكلي والمصدر الاساس للطلب على النقد الاجنبي في ظل الاسلوب التقليدى المتبع في اعداد الميزانية في ليبيا ، او ما يعرف بميزانية الابواب ، وباستثناء المرتبات ( الباب الاول من الميزانية ) فان كل بنود الميزانية العامة للدولة بها مكون بالنقد الاجنبي وسوف ترتفع تقديراتها في الميزانية بالدينار الليبي بنسبة الارتفاع في سعر صرف النقد الاجنبي ، وحتى المرتبات نجدها تنتهى الى طلب استهلاكي على السلع والخدمات المستوردة من الخارج ، لهذا وجب مراجعة مختلف بنود الميزانية وتخفيض نفقاتها واتباع اساليب مختلفة في تحديد تقديراتها . وقد يؤدي اقرار ميزانية عامة مبالغُ في تقديراتها ( inflated budget ) الى اجهاض النتائج المرجوة او الايجابية ، من سياسة تخفيض سعر صرف الدينار الليبي .
وفي معرض الحديث عن ضوابط اعداد الميزانية العامة للدولة والمحاذير المصاحبة لتضخم حجمها والمبالغة في تقدير مصروفاتها المتوقعة ، ينبغي الاّ يغيب عن ادهان معدي تقديرات الميزانية العامة للدولة ما يعرف بالطاقة الاستيعابية للاقتصاد الليبي . ويقصد بالطاقة الاستيعابية للاقتصاد ، قابلية الاقتصاد وقدرته على توظيف الموارد الاقتصادية بكفاءة وزيادة معدل النمو الاقتصادي ، كما تعني بانها مجموعة الفرص الاستثمارية التي يمكن استغلالها بنجاح خلال فترة زمنية معينة . وبالنظر لتضخم عدد العاملين في القطاع العام الذي يتجاوز إثنان مليون موظف وغياب اي تطور تكنولوجي ملحوظ داعم للتنمية الاقتصادية ، والفساد المستشري في مختلف القطاعات ، وعدم مرونة القطاع الانتاجي غير النفطي ، فان الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الليبي تبدو محدودة جدا ، ولا يمكن السيطرة على معدل التضخم في الاقتصاد او التنبوء بمعدلاتها في حال تجاوزت معدلات الانفاق الطاقة الاستيعابية الممكنة . ومما يعزز هذا التخوف غياب ادوات السياسة النقدية التي يمكن ان يطبقها المصرف المركزي للتحكم في عرض النقود . ومن هذه الزاوية يمكن القول بان الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الليبي تمثل حجم الموارد الاقتصادية التي يمكن توظيفها دون تعرض الاقتصاد لمعدلات تضخم عالية ، او التي يتحقق في ظلها معدل تضخم مقبول .
ولتفادي محاذير تجاوز الطاقة الاستيعابية الممكنة للاقتصاد ينبغي مراعاة اسس ومبادئ اعداد الميزانية العامة للدولة والتي من اهمها : مبدأ وحدة الميزانية ، اي ادراج كل الايرادات والنفقات في وثيقة واحدة كدليل على وحدة الدولة ووحدة الموارد ، ومبدأ الشمولية ، اي تسجيل كل الايرادات العامة والنفقات العامة في وثيقة الميزانية دون اجراء مقاصة بينها . كما ينبغي ان تكون الميزانية وفقاً لما يعرف بميزانية الاداء ، حيث يتم التركيز على وسائل القيام بالعمل المطلوب انجازه ، اي تحديد الاهداف التي ترصد لها اعتمادات الميزانية والتي قد تكون مشروعات محددة ( مشروعات وطنية تستفيد منها مختلف المناطق بشكل جماعي ) او برامج موجهة لتحقيق اهداف معينة في مختلف المناطق ( تنمية مكانية ) ، وتحديد تكاليف البرامج المقترحة للوصول الى تلك الاهداف ، والاّ تكون الميزانية مجرد تجميع لميزانيات قدرت ارقامها على اسس مجزاة ، مما يساعد على توزيع الموارد المالية المتوفرة لدى الدولة بشكل افضل بالمقارنة باسلوب الميزانية التقليدية ( ميزانية الابواب ) كما تسهل عملية الرقابة على التنفيد لوجود معايير مسبقة للاداء .
ولما كان سعر الصرف الجديد للدينار الليبي يعني ان الدولار الواحد المتأتي من ايرادات النفط يساوي 4.48 دينار فان موارد الميزانية المتاتية من ايرادات النفط سوف تزداد بنسبة 220 %. مما قد يدفع مُعدي تقديرات الميزانية العامة الجديدة الى تضخيم حجم الانفاق العام المستهدف بحجة توفر موارد مالية اضافية كافية والعمل على استنفادها بالكامل ، وان بنود الميزانية التى يتم الانفاق عليها بالنقد الاجنبي سوف تزداد قيمتها بنسبة الزيادة في سعر صرف النقد الاجنبي . ويأتي هذا التوجه امتداداً لاِثر مسايرة او محاباة الحكومة للاتجاهات او التقلبات الدورية ( pro cyclical ) عوضا عن مواجهة التقلبات الدورية ( counter cyclical ) وعدم مسايرتها ، اي الخضوع للتقلبات في الدخل المتاتي من ايرادات النفط . وقد يدفع البعض بان الالتزام بالاسس والمبادئ التي تحكم اعداد الميزانية يتطلب وجود حكومة راتبة ، وان الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد ، ولمجابهة كل الطلبات ، تستوجب اقرار اقصى حد ممكن للميزانية مهما بلغ حجمها . ومن محاذير هذا التوجه انه سيرسي قاعدة يصعب التخلي عنها وصعوبة تخفيض او تقليص حجم الميزانية في السنوات اللاحقة عندما تتولى ادارة الدولة حكومة راتبة مستقرة او التكيّف مع ميزانيات اصغر حجماً في المستقبل ، فضلا عن عدم القدرة على تنفيد الميزانية بالكفاءة المطلوبة ، في ظل الاوضاع الاقتصادية المترهلة ، اذ العبرة ليس بحجم الميزانية بقدر ماهي القدرة على تحقيق كفاءة المصروفات وادارة الموارد على اسس اقتصادية .
وفي هذا المقام يتردد في الاوساط وعبر وسائل التواصل الاجتماعي ، ان صح ماتم تداوله ، ان حجم الميزانية العامة التي يجري اعدادها للسنة المالية 2021 يتراوح بين 60 و 70 الى 80 مليار دينار ليبي . وبالرغم من ان اعداد ميزانية موحدة للدولة الليبية يعتبر خطوة ايجابية وفي الاتجاه الصحيح ، وتمثل اول مطلب لتوحيد البلاد واكثر ما تحتاج اليه حكومة الوحدة الوطنية ، الا ان اعداد ميزانية تتراوح بين 60 الى 80 مليار دينار يستوجب التوقف عنده والتنبيه الى المحاذير التي ستترتب عليها في حالة الاقتصاد الليبي .
ان اقرار ميزانية بهذا الحجم ، اي كانت الاسباب والخلفيات التي تقف وراءه ، حتى وان توفر لها التمويل اللازم ، سيؤدي الى تعرض الاقتصاد لموجة تضخمية مصحوبة بمعدلات مرتفعة من البطالة بسبب محدودية الطاقة الاستيعابية للاقتصاد وتدني مستوى الانتاجية وعدم توفر القدرات الادارية والفنية الكفيلة بتنفيد اعتمادات الميزانية بالكفاءة المطلوبة ، فاصلاح المالية العامة يعتبر شرطا ضروريا لتنفيذ الميزانية . و عندما تتجاوز المرتبات 50 %من اجمالى الانفاق العام ، ويشكل الانفاق التسييري والدعم اكثر من 25 %, ولا يتجاوز الانفاق التنموي 10 % من اجمالى الانفاق العام فان جل الانفاق العام سيوجه في اغراض استهلاكية بعيدا عن الاستثمار وتكوين راس المال الثابت اللازم لدعم النمو الاقتصادي . ولعل من اشد المحاذير المصاحبة لاقرار ميزانية عامة متضخمة ، كما اوضحت في مقدمة هذه المقالة ، تولّد ضغوط على سعر الصرف الجديد مما قد يحول دون المحافظة عليه او صعوبة اللجوء الى رفع قيمة الدينار الليبي و الحدّ من فرص مراجعته بهدف رفع سعر صرف الدينار الليبي وصولا الى سعر الصرف العادل او السعر التوازني المنشود في اسرع وقت ممكن ، ذلك لان حجم الطلب على النقد الاجنبي المترتب على الانفاق العام ، في اطار الميزانية العامة للدولة ، يقدرفي المتوسط بحوالي 80٪ من حجم الانفاق العام نظرا للاعتماد شبه الكامل على الاستيراد في توفير السلع والخدمات . كما ان اقرار ميزانية عامة مضخمة يشير ، بقصد او بدونه ، الى عدم تعويل الحكومة على القطاع الخاص واعطاءه دور مهم في النشاط الاقتصادي ، وعدم تدليل الصعاب التي تحول دون قيامه بدوره .
وحيث ان الانفاق العام ، في اطار الترتيبات المالية الموحدة غرباً وشرقا ، ( الانفاق الفعلى ) قد انخفض من 56 مليار دينار خلال عام 2019 الى 48 مليار دينار ( حجم الانفاق الكلي المقدر شرقا وغرباً خلال عام 2020 ) ولم يتجاوز حجم الانفاق العام الفعلى خلال العام 2020 مبلغ 37.319 مليار دينار وفقا لبيانات مصرف ليبيا المركزي في طرابلس ، فمن الصعوبة بمكان قبول وتبرير تقديرات لحجم الانفاق ، ضمن ميزانية عامة موحدة خلال عام 2021 تتجاوز 60 مليار دينار بمعنى زيادة حجم الميزانية بنسبة تتجاوز 100%.
ولتبسيط الموضوع وبالنظر الى ان عدد السكان في ليبيا في حدود 6.5 مليون نسمة فان اقرار ميزانية عامة يقدر حجمها ب 80 مليار دينار ، على سبيل المثال ، يعني ان متوسط الانفاق الشهري سيكون في حدود 6.6 مليار دينار ، وان متوسط الانفاق اليومي سيكون في حدود 220 مليون دينار . فهل تمتلك الحكومة والمؤسسات والاجهزة التابعة لها القدرة على انفاق 220 مليون دينار في اليوم بالكفاءة المطلوبة وبشفافية كاملة ، اي مايعادل 50 مليون دولار يوميا ، وهل يستوعب حجم الاقتصاد هذا القدر من الانفاق دون ان ينتهي الى تضخم المستوى العام للاسعار وهدر الموارد الاقتصادية ؟ . ولتمويل هذا الحجم من الانفاق ، هل توجد ضمانات لتحقيق ايرادات نفطية تقدر بحوالي 18 مليار دولار في السنة ، اي مايعادل 1.5 مليار دولار شهرياً على اسس مستدامة ودون توقف ؟ . وينطبق نفس القول نسبيا فيما لو تم اعداد ميزانية عامة يقدر حجم الانفاق المتوقع فيها ب 60 او 70مليار دينار . لذلك فان العبرة ليس بتضخيم رقم الميزانية العامة بقدر ما هي القدرة على الصرف بكفاءة لميزانية يتناسب حجمها مع حجم الاقتصاد الوطني . وبصفة عامة يلاحظ ميل الحكومة الى اقرار ميزانيات عامة تتضمن انفاق عام تتجاوز نسبته كل المعايير القياسية وبالمقارنة بالدول الاخرى ذات الظروف المشابهة ، اذ تجاوزت هذه النسبة 121% من الناتج المحلى الاجمالى عام 2020 ، وفقا لبعض الدراسات حول الاقتصاد الليبي ، ومن المتوقع ان تتجاوز هذه النسبة 150% من الناتج المحلي الاجمالي خلال عام 2021 ، مما يشير الى التدني الشديد في الانتاجية وهدر الموارد في الاقتصاد الليبي .
واذا كان الهدف من اقرار ميزانية ضخمة هو العمل على سداد كافة الالتزامات المترتبة في دمة الخزانة العامة ، بما في ذلك الدين العام والمرتبات المتاخرة و علاوة الاطفال وربات الاسر ، فانه ليس من الحكمة استهداف سداد هذه الالتزامات دفعة واحد خلال السنة ، والاجدى اتباع برمجة مالية كفيلة بسداد هذه الديون على دفعات بحيت يمكن سدادها كاملة ، على سبيل التوضيح ، خلال ثلات سنوات . والاجدى بالحكومة ان تستغل فرصة توفر ايرادات اضافية ، خلال عام 2021 في انشاء شبكة حماية اجتماعية فعالة تستهدف دوي الدخل المحدود ومن هم عند خط الفقر او دونه والفئات الهشة من المجتمع وبالتالي الحفاظ على العدالة الاجتماعية والمساواة بين افراد الشعب . كما ينصح بان توجه نسبة مهمة من الايرادات لتوسيع الاستثمار العام في البنية التحتية في مختلف المناطق كوسيلة لتعزيز النمو الاقتصادي ولانتشال الاقتصاد من حالة الركود التي يعاني منها وتعزيز نمو القطاع غير النفطي بشكل مباشر ، واتاحة الفرصة للقطاع الخاص للمساهمة في حلحلة المختنقات التي يعاني منها الاقتصاد واستيعاب نسبة من الباحثين عن العمل ورفع مستوى الانتاجية . ومن ناحية اخرى ينبغي العمل على تقليص عدد العاملين بالسفارات والقنصليات الليبية ، ومعالجة دعم المحروقات بمنح دعم نقدي كاف ومناسب لليبيين بدلا من دعم سلع البنزين والديزل والكيروسين التي يهرب معضمها للخارج .