بالتزامن مع الإحتجاجات الشعبية المطلبية التي أندلعت مؤخراً في مناطق عدة و المطالبة بتوفير و تحسين الخدمات الأساسية و مكافحة الفساد الذي إتسع نطاقه بشكل كبير خلال السنوات الماضية إلى أن بلغ معدلات غير مسبوقة في تاريخ البلاد أتخد الرئاسي العديد من القرارات و ذلك بهدف الرفع أو التخفيف و الحد من معاناة المواطنين جراء تدهور تلك الخدمات لها أبرزها القرار رقم (564 ) بشأن صرف علاوة الأبناء و الزوجة و القرار رقم (567 ) بشأن تشغيل و تدريب الشباب العاطلين و القرار رقم (577 ) بشأن الإذن بإنفاق مبالغ مالية للبلديات .
و نظراً لأهمية الموضوع سيما و إنه أصبح حديث الساعة من قبل غالبية و عامة المواطنين فإني رأيت ضرورة الخوض في تفاصيل و حينيات و مبرارات تلك القرارات و ذلك للوقوف على مدى واقعيتها و إمكانية تطبيقها في ظل الأوضاع المالية الحالية الحكومة و الظروف الراهنة التي تمر البلاد .
و من خلال الإطلاع على تلك القرارات فإنها جأت و للأسف متسرعة و غير مدروسة بتاتاً و كانت لدوافع سياسية بحتة من حيث دلالة التوقيت و الأهداف فهي تهدف بالدرجة الأولى إلى تهدئة و إمتصاص غضب الشارع إثر إندلاع تلك الإحتجاجات .
و بالتالي فهي قطعاً لم تكن قرارات حكيمة بناءة تهدف إلى تحسين الخدمات المتوقع تفاقم تدهورها خاصةً في ظل سوء الأوضاع الإقتصادية و المالية جراء شُح الموارد المالية بسبب توقف تصدير النفط و الإنقسام السياسي و المؤسسي الذي يعتبر اليوم العائق الأكبر أمام أي إصلاح حقيقي .
أما من حيث جوهر أو مضمون تلك القرارات فهي بالتأكيد يراها الكثيرين غير واقعية لإنها صعبة أو غير قابلة للتطبيق ، فديباجتها تؤكد إنها تمت دون التنسيق المسبق مع المركزي الذي سيمول قرابة 0/090 من قيمة الميزانية ( الترتيبات المالية المعتمدة 2020 ) و المقدرة ب 38.5 مليار دينار و ذلك بعد الهبوط الحاد في الإيرادات النفطية و السيادية التي لم تتجاوز حصيلتها حتى يوليو الماضي 3.346 مليار دينار فقط ، فإيرادات النفط ليوليو المنصرم وحده في حدود 53 مليون دينار فقط .
كما إن هذه القرارات جأت بالمخالفة للتفاهمات التي تمت بين الرئاسي و المركزي في مارس الماضي بشأن الترتيبات المالية التي تقضي بضرورة أن تؤول إيرادات الرسم على مبيعات النقد الأجنبي لإطفاء الدين العام و جزء منها لتمويل البرامج و المشاريع التنموية على أن يلتزم المركزي في مقابل ذلك بتمويل العجز في الميزانية أو (الترتيبات المالية ) و ذلك في إطار ما بات يعرف بضمان إستدامة التمويل .
و صراحةً هذه التفاهمات تسير بشكل جيد لحداً ما حتى نهاية أغسطس المنصرم ، فوفق لبيان المركزي حتى يوليو الماضي ( مرفق صورة )بلغت إيرادات الرسم ( الضريبة )على مبيعات النقد الأجنبي ما قيمته 13.500مليار دينار خصص منها 12.300 مليار دينار لإطفاء الدين العام المصرفي الذي تجاوز حاجز 100 مليار دينار بما فيها القروض الممنوحة للحكومة المؤقتة في شرق البلاد من قبل مركزي البيضاء .
في حين خصص الجزء المتبقي من هذه الإيرادات و البالغ 1.225 مليار لتمويل البرامج و المشاريع التنموية صرف منه فعلياً حتى نهاية يوليو 610 مليون دينار مع العلم إن إجمالي القيمة المخصصة و المعتمدة لهذه البرامج بالترتيبات المالية تقدر ب 2.100 مليار دينار ، و في المقابل بلغ إجمالي الإيرادات النفطية و السيادية ما قيمته 3.346 مليار دينار فقط يضاف إليها قيمة قرض مصرف ليبيا المسيل لحساب الحكومة البالغة 15.579 مليار دينار و هذه القيمة ثمنل 7/12 من إجمالي قيمة القرض المخصص لتغطية العجز في الميزانية و المقدر ب 26.707440 مليار دينار .
و في الجانب الأخر و على صعيد الإنفاق العام، فالإنفاق الفعلي بلغ حتى نهاية يوليو 19.077 مليار دينار مع ملاحظة إن هذا المبلغ لا يتضمن قيمة مرتبات هذا الشهر التي تقدر ب 1.900 مليار دينار تقريباً ما يعني هناك عجز نقدي غير ظاهر في الميزانية قدره 2 مليار دينار على الأقل ، و نظراً للهبوط الحاد و المتوقع في الإيرادات النفطية خاصةً بعد الإتفاق على تجميدها و تحييدها حتى و إن أستئنف التصدير فإن هذا الهبوط سيؤدي حتماً إلى تفاقم العجز أي زيادة في الدين العام الذي يعمل و يسعى المركزي لإطفائه أو تقليصه فهو من سيتحمل مسؤولية تفاقمه بالدرجة الأولى فهذا الدين أو السلف المالية منحت بالمخالفة لقانون المصارف و لا إطار تشريعي لها .
فإذا كانت قيمة الإيرادات النفطية المعتمدة بالترتيبات المالية قدرت ب 6 مليار دينار فقط و ان المحصل منها فعلياً لا يتجاوز 2.218 مليار فإن العجز المتوقع في هذه الإيرادات حتى نهاية العام قد يصل إلى ثلاث مليار دينار يظاف إليها عجز محتمل في الإيرادات السيادية بقيمة 1 مليار دينار على أقل تقدير و ليس هذا فقط بل في الجانب الأخر الإنفاق في بند الطوارى متوقع أن يشهد إرتفاع مع تفاقم وباء كورونا الذي أصبح يصيب المئات يومياً .
و بما إن إجمالي العجز في الميزانية ( الترتيبات المالية ) لهذا العام يقدر ب 26.707404 مليار دينار سيموله المركزي عبر قرض مصرفي فإن إجمالي هذا العجز فعلياً مع نهاية العام قد يصل إلى 32 مليار دينار أي إن الحكومة مطالبة بتدبير قيمة الزيادة في العجز و المقدرة ب 4 مليار دينار ، و السؤال هناء كيف و من أين ؟ مع ملاحظة إن الحكومة متبقي في حساباتها لدى المركزي قيمة الإيرادات النفطية لشهر ديسمبر 2019 م و البالغة 2.871 مليار دينار.
و بالعودة للقرارات السالفة الذكر فإن قرار الرئاسي بشأن صرف علاوة الأبناء لم يتضمن تحديد أو تقدير لقيمتها و التي قدرت ب 2.800 مليار دينار خلال عام 2014 م كما إن تمويل هذه العلاوة من عوائد الرسم على مبيعات النقد الأجنبي يبدو غير ممكن فهو مخالف لقواعد الترتيبات المالية 2020 م و التفاهمات التي تمت بشأنها والتي تستوجب تخصيص قيمة هذه العوائد لإطفاء الدين العام و جزء منها لبرامج التنمية و هذا ما قد يواجه بإعتراض من قبل المركزي و يتجدد خلافه مع الرئاسي ، و مع كل ذلك يبقى هناك هامش للرئاسي و او ضئيل للتحرك في صرف قيمة العلاوة التي يراها أولوية بإعتبارها تمس غالبية المواطنين و ذلك من خلال بواقي الإيرادات النفطية لشهر ديسمبر البالغة 2.871 مليار دينار وقد يضطر أحياناً إلى زيادة الرسم أو الضريبة على مبيعات النقد الأجنبي بهدف تدبير التمويل اللازم على أن يتكفل المركزي بتغطية أي زيادة محتملة في عجز الميزانية .
أما فيما يخص القرار المتعلق بصرف 2 مليار دينار للبلديات للصرف منها على أغراض التسيير و التنمية بنسب 0/030 و 0/05 على التوالي على أن يتم تمويل 0/050 من هده القيمة من خلال عوائد الرسم على مبيعات النقد الأجنبي و 0/050 الأخرى من الإيرادات المحلية للبلديات فأني أرى إن هذاالقرار أكثر صعوبة و تعقيداً من سابقه و ذلك لعدم توفر مصادر التمويل اللازم كما إن البلديات غير قادرة أصلاً على توفير مبلغ مليار دينار من خلال الرسوم و الأتاوات في ظل تأكل القدرة الشرائية للمواطنين و الركود الإقتصادي نتيجة إرتفاع الأسعار مع ملاحظة إن المشاريع التنموية للبلديات لم يشملها قرار الرئاسي رقم 387 لسنة 2020 م الصادر في يونيو الماضي بشأن أعتماد مخصصات الباب الثالث ( مشروعات و برامج تنموية ) بالترتيبات المالية 2020 م فضلاً عن إن تلك المشاريع تحتاج لمتسع من الوقت للدراسة و المراجعةً الفنية ناهيك عن التنفيذ خاصةً و نحن اليوم نقترب من الربع الأخير من السنة المالية 2020 م .
أما فيما يخص قرار الرئاسي بشأن تشغيل و تدريب العاطلين من الشباب و الذين تبلغ أعداد الباحتين منهم وفق لأخر إحصائيات رسمية صادرة عن وزارة العمل بحكومة الوفاق 128000 شخص ، فإن الحديث على هذا القرار يبدو سابق لأوانه في ظل عدم قدرة الحكومة على صرف مرتبات المعينين لديها منذ سنوات و الذين تجاوز عددهم حاجز 300000 موظف .
و أخيراً و بناءاً على ما تقدم يمكن القول إن هامش المنارة أمام الرئاسي اليوم ضيق جداً و أتوقع إن الأزمات ستتفاقم خاصةً مع بداية العام القادم ، فإذا كانت مرتبات سبتمبر الحالي و أشهر أكتوبر و نوفمبر و ديسمبر القادمة مضمون و مكفول صرفها بموجب الترتيبات المالية للعام الحالي 2020 م فإن في بداية العام القادم و في حال ما أستمرت الظروف على ما هي عليه الأن ( عدم إقرار حل سياسي ) فان الأمر سيختلف تماماً حيث حينها يتطلب من الرئاسي و حكومته تدبير ميزانية بقيمة 40 مليار دينار على الأقل 0/085 منها تقريباً للمرتبات و الدعم و السؤال كيف و من أين ؟ هدا ما سنعرفه في الأشهر القادمة .