تزايدت مؤخراً المطالب بشأن توحيد سعر صرف الدينار أمام الدولار خاصةً بعد الإتفاق المشترك بين ممثلين عن أطراف الصراع بشأن إستئناف إنتاج و تصدير النفط و بعد فشل مايسمى ببرنامج الإصلاح الإقتصادي الذي عزى فشله لأسباب عدة أبرزها تعدد أسعار الصرف ، فاليوم يمكن القول إن لدينا ثلاث أسعار للصرف سعر ب 1.34 دينار للدولار تقريباً و هو السعر الرسمي والمعلن من قبل المركزي و السعر التاني هو السعر الرسمي مضافاً إليه نسبة الرسم أو الضريبة و التي تقدر ب 0/0163 من قيمته أي قرابة 3.63 دينار للدولار و السعر الثالث هو السعر في السوق الموازي و هذا السعر يتذبذب و يتقلب من فترة إلى أخرى وفق لقوى الطلب و العرض في السوق و وفق لظروف و إعتبارات معينة تتعلق بمستجدات و تطورات المشهد السياسي .
و صراحةً هذه المطالب شخصياً أراها منطقية و لها ما يبررها بإعتبار تعدد أسعار الصرف تسهم في إستشراء الفساد و تنعش السوق الموازي و تخل بقيم و مبادئ العدالة الإجتماعية و المساواة و تكافوء الفرص أمام جميع المواطنين في حصولهم على النقد الأجنبي.
و توحيد سعر الصرف يعني التوصل إلى سعر واحد متوازن و مقبول لكافة التعاملات والأغراض سواء كانت للحكومة أو المواطنين بما فيها مستحقات أرباب الأسر و فاتورة دعم الوقود و الأدوية و مستلزمات التشغيل لكافة القطاعات ، و المركزي بدوره و في ظل هذا السعر يتخلى كلياً عن سياسة فرض القيود على إستخدامات النقد الأجنبي .
و عادةً ما يتم التوصل إلى السعر الموحد من خلال عدة طرق منها ما يعرف بتحريرالدينار أو تعويمه و ذلك بأن يتم تحديد سعره في السوق وفق لقوى الطلب و العرض دون تدخل المركزي و هذا هو الإجراء الذي يرغبه و يفرضه صندوق النقد الدولي عادةً على الدول المقترضة و المدينة ، كما يتم التوصل إلى هذا السعر أيضاً من خلال التعويم المنظم أي يترك سعر الدينار يتحدد وفق لألية الطلب و العرض و يتدخل المركزي عند الحاجة لتوجيه سعر الدينار في إتجاه معين مقابل الدولار و باقي العملات و هناك ايضاً سياسة ثثبيت سعر الصرف حيث يتم بموجبها ربط سعر الدينار بشكل ثابت أمام الدولار و باقي العملات و يتدخل المركزي عند الحاجة مشتري أو بائع و ذلك حسب الحالة بهدف الحفاظ على هذا السعر و هذا هو النظام كان متبع في ليبيا و لازال في أغلب الدول النامية بما فيها الخليجية .
خلال العقدين الماضيين مرت ليبيا بتجربتين لتوحيد سعر الصرف حيث كانت الأولى في مطلع الألفية و نجحت حينها اللجنة الشعبية العامة (الحكومة) و المركزي تدريجياً في التوصل إلى السعر الموحد الذي قدر ب 1.34 دينار للدولار و ذلك بعد إجراءات و تدابير إقتصادية و مالية عدة على كافة المسارات ٍ.
هذا و قد ساهمت عوامل عدة في نجاح هذه السياسة أبرزها حالة الإستقرار و وحدة مؤسسات الدولة أنداك ،لكن الأهم من ذلك هو الإيجابية لكافة المؤشرات الإقتصادية و المالية مثأثرة بالأحداث التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط جراء الحروب التي قادتها الولايات المتحدة و التي أدت إلى تعطيل إمدادات النفط و إزدهار أسعاره حيث تصاعدت تدريجياً من 32 دولار تقريباً للبرميل في نهاية 2002 م إلى 150 دولار في يوليو 2008 م ثم تراجعت أثر إندلاع الازمة المالية العالمية لتستقر في الغالب فوق حاجز 100 دولار للبرميل حتى نهاية 2014 م ، و بالطبع ساهمت هذه الطفرة النفطية في تراكم الإحتياطيات المالية أو ما تعرف بالأموال المجنبة للحكومة ( اللجنة الشعبية العامة ) التي قاربت أرصدتها من 100 مليار دينار منها 28 مليار دينار لدى حسابها بالمركزي و 67 مليار دينار أسثتمرت في صندوق الثروة السيادي ( المؤسسة الليبية للإسثتمار ) كما تراكم خلال تلك الفترة رصيدالإحتياطي الأجنبي إلى أن تجاوز حاجز 110 مليار دولار في نهاية 2011 م ، كما إن الإيرادات السيادية من ضرائب و جمارك و فوائض شركات عامة كانت لها مساهمة معتبرة في تمويل الميزانية تصل ما نسبته إلى 0/070 من نفقات التسيير ( البابي الأول و التاني ) .
و في المقابل شهد الإنفاق العام نوع من الإنضباط فأغلبه أرتكز على الجانب التنموي رغم مايعتري هذا الإنفاق من فساد فميزانية 2010 م التي تعتبر الأكبر حينها بلغ حجمها 57.500 مليار دينار أكثر من 0/050 منها خصصت للتنمية ، كما إن العجز في الميزانية العامة لا وجود له فالقاعدة أو المبداء المتبع هو مبدأ توازن الميزانية أما الدين العام جله لا يتجاوز 10 مليار دينار تقريباً مثمثلاً في بعض الإلتزامات المالية و ليس في شكل سلف للمركزي ، في حين نما الناتج المحلي تدريجياً على مدار تلك الفترة إلى أن تجاوز عتبة 80 مليار دينار وفق لبيانات رسمية تصل مساهمة القطاع الخاص فيه لأكثر من 0:050 في الوقت الذي لم يتجاوز حجم المعروض النقدي بشقيه حاجز 41 مليار دينار في نهاية 2010 م .
و بالتأكيد أنعكست تلك التدابير إيجاباً على حركة النشاط الإقتصادي و على أداء القطاعي العام والخاص و على معدلات التضخم فالدعم السلعي تم الإبقاء عليه و السيولة توافرت و السوق الموازي لم تعد فاعلة أو ذات أهمية .
كما تجدر الإشارة إن السعر الموحد (1.34) دينار للدولار تماسك حتى خلال سنوات. 13.14 ،12 م نتيجة إزدهار الإيرادات النفطية خلال عام 2012 م و النصف الأول من العام 2013 م و ذلك بعد دعمه من خلال الإحتياطي الأجنبي خلال النصف التاني من العام 2013 م و العام 2014 م إلى أن ناهز العجز في ميزان المدفوعات التراكمي خلال العامين ما قيمته 30 مليار دولار و قبل أن يتهاوى هذا السعر بشكل متسارع منذ بداية 2015 م بسبب الهبوط الحاد في الإيرادات النفطية و الإنخفاض المستمر في رصيد الإحتياطي الأجنبي .
التجربة التانية كانت في 2018 م مع إطلاق مايسمى ببرنامج الإصلاح الإقتصادي الذي آقر في ظروف و مؤشرات إقتصادية مغايرة تماماً عما كانت عليه التجربة الأولى ، حيث فشلت هذه التجربة في توحيد سعر الصرف كما كان مخطط له و ذلك لأسباب عدة لا نريد الخوض في تفاصيلها لكن تبقى أبرزها إستنادا هذا البرنامج فقط على ضريبة مبيعات النقد الأجنبي دون أن تتخد الحكومة و المركزي أي إجراءات مرافقة لها على مساري الميزانية العامة و ميزان المدفوعات ما أدى في نهاية المطاف و بعد إنهيار ركيزته الأساسية ( الإيرادات النفطية ) إلى تفاقم العجز في الميزانية الدي قد يناهز 30 مليار دينار مع نهاية هذا العام دون إحتساب العجز في ميزانية الحكومة المؤقتة في شرق البلاد فضلاً عن تراجع رصيد الإحتياطي الأجنبي و تفاقم الدين العام المصرفي الذي قارب إجماليه من 140 مليار دينار في حين يقارب المعروض النقدي بشقيه من 109 مليار دينار لتتفاقم على إثر دلك أزمة السيولة مجدداً و التي لا حلول لها في الأفق .
و اليوم و في إطار تلك المطالب فأننا يبدو نقف أمام تجربة ثالثة لتوحيد سعر الصرف فرص حظوظها أو نجاحها شبه معدومة فالظروف و المؤشرات الإقتصادية هي الأسواء مقارنة بما كانت عليه 2018 م .
عليه و بناءاً على ما تقدم ، و بما إن توحيد سعر الصرف يعني التوصل إلى سعر توازني مقبول لكافة الأغراض و التعاملات للحكومة و الأفراد و دلك بهدف القضاء على السوق الموازي و الحد من الفساد و إرساء العدالة فإن تحقيق هذا المطلب العادل ليس بالأمر الهين كما يتصوره الكثيرين فهو مسألة غاية في التعقيد ، و المنطق و التجارب تقول .
( لا يمكن توحيد سعر الصرف في ظل ضعف أو عدم وجود إحتياطيات مالية كافية من النقد الأجنبي و هذه الإحتياطيات مصدرها الوحيد متقلب و محدود جداً أي النفط ، كما لا يمكن الحديث عن هذا الموضوع قبل إصلاح التشوهات و الإختلالات في الميزانية العامة و ميزان المدفوعات و الإقتصاد ككل و أي حديث عن هذا الموضوع ما هو إلا إضاعة للوقت و إطالة لأمد الأزمة و المتضرر الوحيد المواطن .
و كما قال العالم أينشتاين ( لا يمكن إعادة التجربة بنفس الخطوات و نتوقع نتائج مغايرة ) فما بالك أن تعاد في ظروف أسواء .