تناولت الأسبوع الماضي موضوع توحيد سعر الصرف و خلصت في نهاية المقال إلى إنه مطلب عادل بإعتبار ذلك يحد من السوق الموازي و من الفساد و يرسئ قيم و مبادئ العدالة الإجتماعية وتكافؤ الفرص امام جميع المواطنين في حصولهم على النقد الإجنبي ، لكن و في نفس الوقت أعتبرت ذلك ليس بالأمر الهين كما يتصور الكثيرين في ظل عدم كفاية رصيد الاحتياطي الأجنبي و دون أن يرافقه إجراءات لمعالجة التشوهات بالميزانية العامة و ميزان المدفوعات خاصةً و إن الظروف و المؤشرات اليوم أسواء عما كانت عليه في 2018 م .
و اليوم سأتطرق للسيناريو الذي يمكن إتباعه و تداعياته على الإقتصاد في حال ما تم إقرار توحيد سعر الصرف .
فليبيا كما هو معروف دولة نامية و ريعية مستهلكة غير مصدرة و غير منتجة و ليس لديها حتى إكتفاء ذاتي و تعتمد بشكل شبه كامل على مصدر وحيد في تمويل ميزانيتها و في توفير كافة إحتياجاتها و هو النفط حيث شكلت مساهمة هذا المصدر على مدار السنوات الماضية ما نسبته 0/095 في تمويل ميزانياتها قبل أن تتراجع هذه النسبة خلال العامي 2019 و 2020 م إلى 0/070 و 0/006 على التوالي بسبب تفاقم الإنفاق العام من ناحية و توقف التصدير من ناحية أخرى .
و فيما يلي نستعرض السيناريوهات الممكن إتباعها في توحيد سعر و تداعياتها على الإقتصاد في حال ما تم إقراره .
- السيناريو الأول توحيد سعر الصرف من خلال التعويم الكامل أو الحر أي يتم تحديد السعر من خلال قوى الطلب و العرض في السوق، ففي ظل هذا السيناريو يتخلى المركزي كليا عن القيود التي عادةً ما يفرضها للحد من استخدامات النقد الأجنبي و عدم تدخله و بالطبع تطبيق هذا السيناريو غير ممكن بتاتاً في ظل عدم وجود مصادر أخرى متنوعة مستدامة للنقد الأجنبي و الإعتماد فقط على مصدر وحيد متقلب و محدود فضلاً عن وجود معروض نقدي كبير جداً بشقيه ( داخل النظام المصرفي و خارجه ) يقدر ب 109 مليار دينار في مقابل إحتياطي نقد أجنبي محدود يعاني عجوزات متراكمة .
- السيناريو التاني توحيد سعر الصرف و تحديده من خلال التعويم المنظم أو المرن أي يحدد السعر أيضاً و مبدئياً وفق لألية الطلب و العرض في السوق و يتدخل المركزي فقط عند أسعار معينة يراها مناسبة و من الأمثلة على هذا النوع الحالة المصرية و يعتبر هذا السيناريو أقل صعوبة من السيناريو الأول لكن يتطلب تأمين مخزون كافي من النقد الأجنبي كي يستطيع المركزي من خلاله التدخل بهدف إستقرار السعر عند معدلات معينة ، و صراحةً نجحت الحكومة المصرية و لحداً ما في تطبيق هذا البرنامج نتيجة توسعها في الإقنراض الخارجي إلى إن ناهز الدين الخارجي حتى نهاية يونيو الماضي 120 مليار دولار وفق لبيانات عن صندوق النقد الدولي مع إعتمادها لإستراتيجية جيدة لجدولته و إستهلاكه و في المقابل إنعكس هذا التعويم إيجاباً في إستقرار معدلات التضخم و زيادة تدفق الإسثتمارات الأجنبية و تحويلات المصريين بالخارج و تنشيط قطاعي السياحة و التصدير ، و للأسف جميع هذه الخصائص أو الميزات غير متوفرة إطلاقاً في بلادنا و من تمة هذا السيناريو لا يصلح ايضاً لإقراره و تطبيقه في الإقتصاد الليبي .
- السيناريو الثالث هو ثتبيت سعر الصرف أي ربط الدينار بالدولار و بباقي العملات الأجنبية من خلال المركزي و هذا ما هو مطبق حالياً في دول الخليج و كانت ليبيا في السابق من ضمنهم ، حيث ترى تلك الدول ثنبيت سعر الصرف قاعدة و ركيزة مهمة و أساسية للإستقرار النقدي و المالي في ظل متانة احتياطياتها من النقد الأجنبي المدعومة من تدفق الإيرادات النفطية و أيضاً في قدرتها على سداد إلتزاماتها الخارجية و تلبية متطلبات الإقتصاد الوطني من العملات الأجنبية ، و على الرغم من صعوبة توحيد سعر صرف الدينار وفق لألية الثتبيت في بلادنا في ظل الظروف الحالية فأنه يبقى السيناريو و الخيار الوحيد .
- هذا و يتم عادةً توحيد سعر الصرف و فق لهذه الألية من خلال البنوك المركزية و لكن هذا الأمر يبدو متعذر في ليبيا في ظل إنقسام مجلس إدارة المركزي ما يعني إسناد هذه المهمة للرئاسي رغم ما يعتريها من تحفظات قانونية .
- و فبل الخوض في تداعيات توحيد سعر الصرف على الإقتصاد وفق لألية الثنبيت يجب التذكير و التسليم بالأتي .
- توحيد الصرف يعني إعتماد سعر واحد لكافة التعاملات سواء كانت للحكومة أو للأفراد بما فيها فاتورة المرتبات و الدعم و مخصصات أرباب الأسر .
- توحيد سعر الصرف يعني ضمنياً رفع لدعم الوقود و الكهرباء و الأدوية و المياه .
- توحيد سعر الصرف وفق لهذه الألية يعني لا وجود لضريبة المبيعات على النقد الأجنبي و تخصيص عائداتها لإطفاء الدين العام .
- توحيد سعر الصرف في هذه الحالة سيعني لنا مزيد من التخفيض في قيمة الدينار .
- و لتوضيح ذلك نستعرض المثال التالي .
- بلغت قيمة الترتيبات المالية المعتمدة ( الميزانية ) لحكومة الوفاق للعام الحالي 2020 م 38،5 مليار دينار في حين تقدر ميزانية الحكومة المؤقتة ب 11 مليار دينار ، حيث تتضمنت ميزانية حكومة الوفاق ما قيمته 5.600 مليار دينار لفاتورة باب الدعم و مبلغ .5.000 مليار دينار لباب الطوارئ و مبلغ 2.100 مليار دينار لباب التنمية و مبلغ 4.000 مليار دينار لباب التسيير و مبلغ 21.800 مليار دينار لباب المرتبات و إذا ما أفترضنا إن سعر الصرف الموحد تم تثبيته على 4.25 دينار للدولار و هذا متوقع بإعتبار إن سعر 3.90 دينار للدولار لم يعد مناسب في ظل الظروف الراهنة فإن هذا يعني تضخم فاتورة باب الدعم المقدرة ب 5.600 مليار دينار أي ما يعادل 4.179 مليار دولار حيث ستقدر قيمتها وفق للسعر الموحد و المفترض ب 17.761 مليار دينار كما إن نفقات باب الطوارئ المقدرة ب 5.000 مليار دينار أي ما يعادل 3.731 مليار دولار ستقدر قيمتها وفق السعر الموحد 12.686 مليار دينار بإعتبار إن ما نسبته 0/080 فقط من هذه النفقات يتم دفعه بالدولار و كذلك فيما يخص نفقات التسيير التي ستقدر ب 9.514 مليار دينار في حين ستقدر نفقات باب التنمية ب 5.328 مليار دينار ، و اذا ما أضفنا لها قيمة المرتبات المقدرة ب 21.800 مليار دينار بإعتبارها لن ثتاثر شكلياً بالسعر الموحد و يضاف إليها مبلغ 11 مليار دينار قيمة الميزانية المقدرة من قبل الحكومة المؤقتة .
- عليه فإننا نجد أنفسنا أمام ميزانية ضخمة موحدة تناهز من 78 مليار دينار تتطلب إيرادات نفطية بقيمة 18 مليار دولار على أقل تقدير .
- عليه و بناءاً على ما تقدم يمكن لنا سرد التداعيات السلبية لتوحيد سعر الصرف على الإقتصاد في الأتي -
- 1- تضخم ظاهري لحجم الإنفاق العام .
- 2- إرتفاع معدلات التضخم و تأكل دخول المواطنين و مدخراتهم جراء المزيد لإنخفاض القدرة الشرائية للمواطنين مما يعيد إحياء المطالب بزيادة المرتبات للعاملين بالقطاع العام .
- 3- هذا الإجراء سيقف عائق امام قانون توحيد المرتبات و زيادتها لعدم توفر الموارد .
- 4- تشجيع أعمال التهريب لدول الجوار فهذا الإجرا سيؤدي مزيد من الإنخفاض لقيمة الدينار امام عملات دول الجوار .
- 5- مزيد من الإرتفاع في أسعار السلع و الخدمات التي تقدمها الدولة خاصةً فيما يتعلق النقل و الاتصالات و الكهرباء و الوقود و الإسمنت و الحديد و غيرها .
- 6- إرتفاع تكلفة خدمات الصحة و التعليم في القطاع الخاص ما سيؤدي إلى مزيد من الإرهاق لكنها المواطنين و تفاقم لمعاناتهم في ظل تردي خدمات القطاع العام و إرتفاع نفقات السفر و العلاج بالخارج
- 6- تعطل أعمال التنمية و برامج إعادة الإعمار و إصلاح البنى التحتية المتهالكة و تفاقم البطالة لعدم توفر الموارد المالية اللازمة لذلك .
- كما سيكون لهذا الإجرا أثار و تداعيات سلبية أيضاً على مؤشرات التضخم و الدين العام والمعروض النقدي و الناتج المحلي و الإحتياطي الأجنبي بالإضافة إلى تداعيات غير منظورة تظهر في حينها .
- و في المقابل قد ينتج عن هذاالإجراء أثار إيجابية مؤقتة ثتمتل في إنخفاض نسبي في معدلات التضخم قياساً بما هي عليه اليوم و تخفيف جزئي لأزمة السيولة .
- و أخيراً فإن توحيد سعر الصرف يبدو فعلأً مسألة صعبة غاية في التعقيد تتطلب خطط إستراتيجيات و شغل و تضحيات من الحكومة والشعب و حزمة من الإصلاحات المرافقة على كافة المسارات بما فيها مكافحة الفساد و إلتزام كامل بتنفيذها، فضلاً عن إستقرار عام و مؤسسات موحدة على أن تسبقه دراسات معمقة مستفيضة بالأرقام و التحليل و الإستنتاج لإتجاهات هذه التجربة في السابق و أخداً في الإعتبار تجارب الأخرين فليبيا جزء من العالم و ليس بمعزل عنه ، و بالتأكيد ليس مسألة توحيد سعر الصرف مجرد كلام يقال عبر وسائل الإعلام .
- لكن يبقى الشيء الذي يجب علينا الإعتراف و الإقرار به هو إن مخلفات و تراكمات لسياسات متهورة و إرتجالية على مدار تسع سنوات لا يمكن أبداً معالجتها أو حتى التفكير في معالجتها بين ليلة و ضحاها .