تناولت في الجزء الأول أسباب أزمة السيولة بالتفصيل و التحليل و خلصت بإنها أزمة إقتصادية بالدرجة الأولى نتيجة لهبوط الإيرادات العامة للدولة ( الايرادات النفطية و السيادية ) و إرتفاع الإنفاق جراء الهدر في المال العام ما أدى إلى تفاقم العجز التراكمي في الميزانية ( الدين العام ) الذي فاق حاجز 140 مليار د.ل و في ميزان المدفوعات الذي ناهز من 50 مليار دولا و بالتأكيد لم تكن أزمة مالية و ذلك بالنظر لضعف النظام المصرفي و ترهله و عدم قدرته على خلق الإئتمان أو النقود فضلاً عن تفافة المواطنين و التجار السائدة و المثمتلة في إحتفاظ معظمهم بالنقود في بيوتهم فجل تعاملاتهم تقريباً قبل الأزمة كانت تتم نقداً .
و الْيَوْمَ سنتناول و بإيجاز تداعيات الأزمة و مقترحات حلولها .
فالبنسبة لتداعياتها يمكن لنا إيجازها في الأتي .
1- تفاقم لمعاناة المواطنين جراء إصطفافهم في طوابير طويلة لفترات أطول دون حصولهم على الأموال الكافية التي يحتاجونها مما عكر صفو حياتهم و أربك مخططاتهم الحالية و برامجهم المستقبلية
2- فقدان المواطنين لجزء كبير من مدخرات و دخولهم فأحياناً يضطروا لدفع قرابة 0.040 من قيمة البضاعة في سبيل الحصول عليها بموجب صكوك أو حوالات
3- تسببت الأزمة في نوع من الركود في السوق و ذلك لرفض العديد من التجار التعامل بوسائل الدفع البديل و عدم قدرة المواطنين الحصول على كل إحتياجاتهم من السلع و الخدمات .
أما الحلول و قبل الخوض فيها يجب علينا الإعتراف أولاً بعمق و حدة الأزمة و تعقيداتها فهي ليس كما قد يتصورها البعض ، كما يجب أيضاً التذكير بإنه قد تم محاولة معالجتها في السابق من قبل المركزي و على مدار السنوات الماضية و ذلك من خلال إجراءات طباعة العملة و بيع الدولار للمواطنين لكافة الأغراض في شكل أرباب أسر و إعتمادات مستندية و أغراض شخصية و ذلك في إطار ما يسمى ببرنامج الإصلاح الإقتصادي ، و مع ذلك فشلت كل تلك المحاولات و أدت في نهاية المطاف إلى تراجع إحتياطي البلاد من النقد الأجنبي دون أي نتيجة تذكر و هذا من جانب و من جانب أخرى تزايد المعروض النقدي خارج النظام المصرفي الذي سجل حتى نهاية مايو الماضي 35.823 مليار د.ل و بزيادة قدرها 4.958 مليار د.ل عن حجمه في نهاية 2017 م ليعود إجمالي المعروض النقدي بشقيه ( خارج النظام المصرفي و داخله ) و يقارب من مستوياته التي سجلها في نهاية العام المذكور و هو العام الذي سبق إقرار البرنامج مسجلاً 110.654 مليار د.ل رغم إن صافي قيمة عوائد الرسم أو الضريبة على مبيعات النقد الأجنبي التي دفعها المواطنين من دخولهم و مدخراتهم خلال عامين ناهزت من 52 مليار د.ل و ما يعادل 20 مليار دولار وفق لبيانات رسمية صادرة عن المركزي .
و عليه فإن اَي مقترح للحل يجب أن يأخد في الإعتبار المعضلات الأتية و التي لا يمكن ان نتخيل نجاحه دون معالجتها لعل أبرزها .
1- لدينا تقافة و عادة متجذرة في مجتمعنا تقوم على أساس تفضيل المواطنين و التجار للتعامل النقدي و الإحتفاظ بالنقود ببيوتهم ، و هذه التقافة أو العادة تزايدت أكثر في ظل تردي الوضع الأمني و إدراكهم المسبق بإن إيداعهم لأموالهم بالمصارف سيكلفهم أعباء إضافية إدا ما قرروا إستخدامها و ذلك لعدم قدرة المصارف على تلبية مطالبهم نقداً، ناهيك عن بيروقراطية و رداءة الخدمات المصرفية .
2- لدينا فاتورة مرتبات شهرية يقارب إجماليها من 3.000 مليار د.ل تشمل مرتبات العاملين بالجهات الممولة من الخزانة العامة و الشركات العامة و المصارف و المعاشات الأساسية و الضمانية ، و المصارف ملزمة بتوفير ما نسبته 0/060 من هذه المرتبات نقداً إن لم نقل أكثر خاصةً في ظل إرتفاع معدلات التضخم ، فإذا كان في السابق أي قبل 2011 م مبلغ 500 يكفي لإحتياجات شهر فإن الْيَوْمَ لا يكفي حتى لأسبوع واحد .
3- لدينا مشكل حقيقي و هي إن الدنانير التي تخرج من المصارف لا تعود اليها إلا عبر شراء الدولار إِما في شكل أرباب الأسر و أغراض شخصية و إعتمادات مستندية بالطبع يستثنى من ذلك مبيعات الشركات العامة كالإتصالات و البريقة و غيرهما فعادة .
مبيعات منتجاتها أو خدماتها تباع نقدا من خلال و كلائهم المعتمدين ،
و السؤال هناء كيفية إعادتها ؟؟؟
4- لدينا ودائع تحت الطلب أو حسابات جارية للمواطنين و للحكومة تقدر قيمتها حتى مايو الماضي ب 71.705 مليار د.ل 0/050 من هذه القيمة تقريباً مرتبات أي دخول و ليست مدخرات ما يعني قابليتها للسحب في أي وقت لغرض الإنفاق أو الإستهلاك و بجب على المصارف أن تكون مستعدة لذلك .
5- لدينا نقود خارج النظام المصرفي تقدر ب 35.823 مليار د.ل يضاف إليها وفق لمعلومات مؤكدة ما قيمته 16مليار د.ل قيمة المتداول بالمنطقة الشرقية والتحدي أمام المصارف يكمن في إمتصاصها لجزء كبير من هذا المعروض و السؤال كيف ؟؟ فهي ليس لديها أي منتج تقدمه لجذب المواطنين لديها .
6- لدينا سياسة نقدية عملياً أدواتها معطلة منذ نفاذ القانون رقم (1) لسنة 2013 م بشأن منع المعاملات الربوية و لم يتبقى منها إلا أداة سعر الصرف و هذه الأداة و للأسف تم إساءة إستخدامها ، فإذا كانت المصارف المركزية و الحكومات في العالم تستخدم هذه الأداة للثأنير في ميزان المدفوعات من خلال دعم الصادرات و الإحتياطي الأجنبي و خلق الوظائف فإن في ليبيا تستخدم لتمويل العجز في الميزانية الناجم عن الهدر في الإنفاق العام فضلاً عن إضعاف القدرة الشرائية للدينار و لدخول المواطنين و إستنزاف إحتياطي النقد الأجنبي .
7- لدينا حكومات ليس لديها أي سياسات مالية فنظرتها للميزانية لا تعدو عن كونها بيان بالإيرادات و المصروفات و وسيلة لهدر المال العام من خلال التوسع في الإنفاق غير المبرر و تراكم الديون و لا تنظر إليها كأداة لتحقيق التنمية و الإستقرار الإقتصادي و العدالة الإجتماعية بين مواطنيها .
عليه و بناءاً على ما تقدم و في ظل تلك المعضلات فإن مقترح الحل أراه كالتالي .
أولاً - يجب أن يرتكز الحل على ركيزتين أساسيتين و هما.
1- إقرار حل سياسي شامل و دائم ينهيء الإنقسام و يوحد كافة مؤسسات الدولة و يرسيء الأمن و الإستقرار في كافة ربوع و أنحاء البلاد .
2- الإقرار بإن مسألة معالجة السيولة تقع على عاثق المركزي بالدرجة الأولى و ذلك بموجب القانون رقم (1) لسنة 2005 م و تعديلاته ، ثم على الحكومة من خلال سياساتها المالية و التجارية ، ثم المواطنين من خلال إيمانهم و قناعتهم بدور المصارف و الهدف من إنشائها .
و إستناداً على ذلك يجب على المركزي إتخاذ جملة من الإجراءات و ذلك بالتزامن مع إجراءات تتخد من طرف الحكومة أي السير في خطين متوازيين و ذلك على النحو التالي .
1- على المركزي تكثيف برامج التثقيف لنشر و رفع الوعي المصرفي بين المواطنين و التجار لحثهم على إيداع مدخراتهم بالمصارف و أن تكون معظم تعاملاتهم من خلالها و ليس هذا فقط بل عليه إقناعهم بإن ذلك يَصْب في مصلحتهم حيث ذلك سيعزز من قدرة المصارف على خلق النقود و منحهم القروض التي يحتاجونها و ذلك بما ينعش الإقتصاد عبر خلق الوظائف و زيادة معدلات النمو .
2- ضرورة مواكبة المصارف للتطورات التكنولوجية و ذلك عبر تفعيل الخدمات المصرفية الإلكترونية أي عبر الإنترنت بحيث يمكن للمواطنين إجراء مدفوعاتهم دون الحاجة للذهاب للمصارف و تفادي الإزدحام و الروتين .
3- ضرورة توسع المصارف في إستخدام وسائل الدفع البديل كماً و نوعاً بحيث تكون متاحة لكافة المواطنين و الحصول عليها دون أي عناء أو تعقيد .
4- يجب على المركزي و هدا الأهم تفعيل أدوات السياسة النقدية المعطلة فطالما فشل أو عجز لأي سبب ما في تفعيل المادة الرابعة من القانون رقم (1) لسنة 2013 م المتعلقة بإنشاء صندوق للإقراض الحسن و بما يعزز الصيرفة الإسلامية كنظام بديل ، فإن لازاماً عليه الْيَوْمَ القيام بدراسة و تقييم ننائج و تداعيات هذا القانون على الإقتصاد لإعادة النظر فيه بالتأجيل أو التجميد إلى حين إيجاد بديل فاعل ، فمن غير المعقول بل من الإجحاف أن يدفع الموطنين وحدهم فقط تبعات هذا القانون مجبرين غير مخيرين بخسارتهم أحياناً لقرابة 0/040 من مدخراتهم لغرض توفير إحتياجاتهم في حين تعبث الحكومة بالقروض أو السلف دون سقف و دون أي تكلفة إلى أن فاقت قيمتها حاجز 140 مليار د.ل و المواطنين وحدهم أيضاً من سيتحمل مستقبلاً تبعات هذه القروض فالحكومات تأني و تذهب و الشعوب باقية .
5- دراسة إمكانية سحب بعض الإصدارات من التداول و إحلال محل محلها إصدارات جديدة و بطريقة تحقق الغرض و الهدف منها في تقليص حجم النقود المتداول في السوق و التحكم فيه .
6- إعادة النظر في سعر صرف الدينار أمام العملات الأجنبية و ذلك وفق للتطورات الإقتصادية و ذلك بالتنسيق و التشاور مع الحكومة و ليس بمعزل عنها كما نرى اليوم .
و في مقابل ذلك و بالتزامن يجب على الحكومة إتخاذ الإجراءات التالية .
1- العمل على إستنباب الأمن في كافة أنحاء البلاد بشكل عام و المصارف بشكل خاص و بما يكفل إزالة هاجس الخوف لدى المواطنين في الإطمئنان على أموالهم .
2- ضرورة أن تغير الحكومة من نظرتها المتخلفة للميزانية العامة و ذلك من خلال تفعيل أدوات السياسة المالية عبر ضبط و ترشيد الإنفاق العام و تركيزه على الجانب التنموي و إطفاء الدين العام تدريجياً و تفعيل جباية الإيرادات العامة النفطية و السيادية و تحصيل الديون و تنويع مصادر الدخل ، و عليها أبضاً محاربة الفساد المستشري و الذي بلغ معدلات قياسية .
و في الختام يجب على المركزي ان يدرك أن مهمته لا نقتصر على تنفيذ أذونان صرف الميزانية و الأشراف على فتح الإعتمادات و إدارة الإحتياطيات و غيرها من مهام بل عليه إن يدرك إيضاً إن مهمته الأساسية تحقيق الإستقرار النقدي و خلق النقود و بما يعيد و يعزز الثقة في النظام المصرفي و هذا لا يتأتى إلا من خلال تفعيل أدوات السياسة النقدية المعطلة ، فمن الخطاء محاولة خلق النقود عبر طباعة المزيد من العملة و الخطاء الأكبر محاولة خلقها من خلال التفريط في إحتياطي البلاد من النقد الأجنبي الذي يستوجب تنميته و إستقطاب المزيد منه .
كما يجب على ( السلطة التشريعية ) أو من في حكمها أن تدرك إن ليس مهمتها إدارة حياة المواطنين و التدخل في شؤونهم في أن لا يتقاضوا أو لا يدفعوا فوائد فهم يتقاضونها و يدفعونها أضعاف مضاعفة دون إرادتهم بل إن مهمتها إعتماد الحكومة و محاسبتها و إقرار الميزانية و مراقبة تنفيذها و إقرار القوانين التي تخدم مصالح الشعب .